تكثر في هذه الايام الاطروحات ووجهات النظر حول تفعيل العمل القضائي
كاحدى الرافعات التي طرحتها انتفاضة الشعب اللبناني منذ 17/10، لتوطيد حكم القانون
ومكافحة الفساد.
نسجل هذا الموقف العفوي والبرىء والمتفائل لدى المنتفضين الثوار، الذي
يعتبر ويأمل ان الجهاز القضائي بصفته احد سلطات الدولة، قادر على ان يكون المدخل
للاصلاح وضابط الايقاع لتقويم الامور، او على الاقل ليساهم في ضبط الامور من خلال
لجم التعدي على الحقوق، اياً كانت عامة او خاصة وحمايتها. وبالتالي، ملاحقة او
معاقبة من يبادر الى هذا التعدي او يشارك فيه .
ان هذا الامر او المطلب، من الناحية المبدئية والنظرية، صحيح فالقضاء
هو صمام الامان لحماية العلاقات، وتبعاً لذلك، لحماية التوافق الاجتماعي وضمان
الحقوق، وفرض الواجبات، ضمن اطار القوانين المعتمدة.
لا اريد من هذه المقدمة ان أحبط المنتفضين والثوار اللبنانيين بل على
العكس، انني من ضمن التزامي بصحة ثورتهم، احاول ان اساهم وآمل ان انجح في المساهمة،
في ضبط التصويب لتفادي الاحباط او بتعبير آخر، في توفير اسباب النجاح.
بالتأكيد ان استقامة عمل المرفق القضائي يوفر الارضية لقيام دولة القانون. وبالتالي
فأنه الهدف الذي يختصر كل الاهداف.
وعليه يقتضي ان يرتكز تعاملنا مع هذا الامر، بقدر وافٍ من الموضوعية
غير متجاهلين "الواقع اللبناني"، وغير متجاهلين ان المرفق القضائي، باشخاصه، لا
يمكن ان يكون غير متأثر بهذا "الواقع" الذي تحكمه "ثقافة قائمة وسلوكيات متوطدة"
اعني بذلك سلوكيات الافراد في تعاملهم مع منظومة الحقوق والواجبات، وفي تعاملهم ومع
المؤسسات على اختلاف طبيعتها خاصة كانت ام عامة. اخذين بعين الاعتبار الى مع ما
يطرحه الخروج من هذا الواقع الى واقع اكثر استقامة، من مسار تكتمل حلقاته مع الزمن.
من جهة اخرى، ان اصطلاح الاوضاع، يفترض تصويب سلوكيات الافراد وكذلك
تصويب اداء جميع مؤسسات الدولة وسلطاتها بشكل موازٍ ومتناسق. مع التأكيد، على ان
لمرفق القضاء الدور المميز في عملية التصويب بدون ان نتجاهل، مع ذلك، قاعدة ذهبية
حكمت سلوك البشر والمجتمعات والدول. وتؤكد هذه القاعدة ان النهج السياسي، بكل
ابعاده، يشكل الاساس الذي يفترض ان تبنى عليه جميع المقاربات.
من خلال اعتماد هذه المقاربة، يمكننا العودة الى مطلب القضاء الصالح
الذي هتف به الثوار المنتفضين تحت عنوان "القضاء المستقل"، كمطلب اساسي لخروج لبنان،
كدولة ومجتمع في آن، من مأزقه التاريخي.
ان قراءة الواقع القضائي حالياً في لبنان تفيد بما يلي: نقص في العديد،
والادوات، والاجراءات. تأثيرات مختلفة الطبيعة عليه. منها السياسي (تأثيرات
السياسيين على ادائه، مداخلها عبر التعيينات والتشكيلات القضائية). ومنها العلاقات
الاجتماعية والسياسية. ومنها المادي (تنفيعات – رشوات ...) ومنها الثقافي الاجتماعي
(العلاقات الاهلية والاجتماعية والمعتقدات).
فعندما تكون مفاهيم الانتفاع، اي السلوكيات الاقتصادية والمحسوبية،
طاغية على تصرفات الناس. وعندما تغيب المعرفة المتوطدة وتتوسع دائرة الجهل
بالسلوكيات التي تعبر عن النزاهة. يصعب في هذه الحالة، توفير مناخ مؤات لاكتمال
مناعة الحيادية عند القضاة.
ان الاحاطة بهذه المعرفة، توفر المدخل الصحيح لرسم خطط تمتد بالزمن، من شأنها توفير
اسباب النجاح للمرفق القضائي في لعب دوره في حماية الدستور وفي حماية القانونين
العام والخاص وبالتالي في حماية الحقوق على انواعها.
من جهة اخرى، ان توفير الوعي لدى القضاة بمعايير الجودة في ادائهم
لوظيفتهم (والجودة هنا لا تقتصر على حسن تطبيق المبادىء القانونية على وقائع القضية)،
(وهو ما يعرف بالكفاءة المعرفية) انما ايضاً الالتزام بمبادىء النزاهة/الحيادية،
بعيداً عن اي تأثير او مؤثر سواء كان اجتماعي او سياسي او ثقافي وكذلك التشديد على
المهارة والفعاّلية في ادارة الملف القضائي.
وللحديت تتمة ...